إصرارٌ وصمود
بقلم: نعمة الفيفي
حينما يُجبرنا القدر على مواجهة اختباراتٍ قاسية، يتجلّى معدنُ الإنسان الحقيقي… كنتُ هناك، في تلك اللحظة الفاصلة بين الرجاء واليأس، بين الأمل والخوف، بين التشبث بالحياة والاستعداد للفقد.
رجعتُ بذاكرتي إلى تلك الأيام الحالكة، حيث لم يكن لي من رفيقٍ سوى أمي، وكانت ثالثنا المعاناة. هي تصارع الألم بجسدٍ أنهكه المرض، وأنا أصارع خوفي العميق… خوفٌ من أن تخذلني الأيام، أن أخسرها، أن أُترك وحدي في مواجهة عالمٍ لم يعرف يومًا الرحمة.
في تلك الحجرة الباردة، حيث لا يُسمع سوى همس الأجهزة الطبية، جلستُ أراقب أنفاسها المتقطعة، أترقب كل اهتزازةٍ في خط النبض، وأتأمل وجهها الذي خطّ عليه المرض شحوبه القاسي. كان الحزن يثقل قلبي، والدموع تُغرِق عينيّ، بينما يرنُّ في أذني صوتُ المحاسب في المستشفى:
“إن لم توفّري المبلغ المطلوب، سنتوقف عن علاج والدتك، وسنكتب لها خروجًا غدًا.”
خرجتُ إلى العالم، أطرق كل الأبواب التي كنتُ يومًا مفتاح أملٍ لها، أتصل بأولئك الذين سبق وساعدتهم، أبحث بينهم عن قلبٍ يعرف معنى الوفاء… لكنني لم أجد سوى صدى النكران، وجفاء النفوس التي لا تذكر سوى ما تأخذه، وتنسى ما تُعطى.
في لحظة انكسارٍ، ألهمني الله أن أتصل بمديرة البنك في مدينتي، والتي لم تتردد في التواصل مع مديرة الفرع في المدينة التي يرقد فيها أمل حياتي… لم أكن أعرف تلك المدينة، لم يكن لي فيها سوى طريق واحد، يقودني إلى المستشفى حيث أمي، وكأنها بوصلة روحي ودليلي الوحيد.
تيسر الأمر، وتوفر المبلغ، وأُجريت العملية… لكن يدَ القدر كانت أسرع، فرحلت أمي، وتركتني في مواجهة فراغٍ يبتلع كل شيء، ووحدةٍ لا يملؤها إلا صدى الحنين.
آنذاك، لم أعد ألتفت إلى ما كان من معاركَ خضتها، فقد كنتُ دومًا مستهدفةً من قلوبٍ سوداء، لا ترى في النجاح إلا تهديدًا، ولا في الطموح إلا جريمة. حوربتُ، عوقبتُ، وخُذلتُ، حتى أن إحداهن لم تجد في مرض أمي ما يستحق الرحمة، فاتصلت لا لتطمئن، بل لتخبرني بلهجةٍ باردة أن أعود، وكأن الألم لم يكن كافيًا ليكون لي عذرًا.
لكنني كنتُ قد تعلمتُ الدرس… لم أُعِر الأمر اهتمامًا، فقد حفرت أمي في روحي حكمةً لا تُنسى:
“احفظي الكلام الجميل، ودوسي بقدمكِ على ما يُؤلمكِ، وواصلي المسير.”
كم كنتُ أحتاجُ تلك الكلمات! كم كنتُ بحاجةٍ إلى تلك القوة التي غرسَتها فيّ منذ الطفولة، حين كانت تقول:
“لا تتوقفي أمام العقبات، فإن لم تستطيعي إزاحتها، فحَلِّقي فوقها.”
آهٍ يا أمي… كم كنتِ عظيمة، وكم كان صمودكِ درسًا لا يموت. رحلتِ، لكنكِ لم تتركي يدي، لم تتركي قلبي، ولم تتركي إرادتي تَهِن. علّمتِني كيف يكون الإصرار، كيف يُصارع الإنسان قسوَة الأيام، كيف يُعيد بناء نفسه من بين الركام، ويُكمل الطريق… حتى حين يكون الطريق محفوفًا بالألم.
majidjomymy5@gmail.com
abialgali@hotmail.come