بقلم/ نعمة جابر الفيفي
abialgali@hotmail.com
في عصرٍ باردٍ من أيامٍ مضت، ذهبتُ إلى بيتِ جدّتي. وعند دخولي وجدتها جالسةً على كرسيٍّ مصنوعٍ من السَّعَف، وباللهجة الجازانية القديمة: «قعاده». جلستُ قربها، نتجاذب حديثًا ظليلًا وارفًا، كظلِّ شجر الحناء الذي كان بقربنا، ورائحةُ أزهارها تملأ المكان.
حدّثتني عن وادي الحَنّاني الذي كان يمتلئ بأشجار الحناء والفلّ (الردايم)، وكيف كانت النساء يجتمعن، وكيف كانت كلُّ واحدةٍ منهن تجمع أوراق الحناء وزهور الفل. كان كلُّ بيتٍ في وادي الحنّاني لا يخلو من شجرة فلٍّ أو حناء. وقالت، مسترسلةً في حديثٍ كان أشبه بجدول ماءٍ رقراق: «كانت كلُّ واحدةٍ منا يا بنتي تتفاخر بأنها جمعت الكثير من الفلّ والحناء، وكانت ضحكاتُنا البريئة تملأ المكان فرحًا وسعادة»، وكأنها تقول لكل من يسمعها: ما أجمل القلوب الطيبة البسيطة التي يسعدها القليل، ويؤلّف بينها الصفاءُ والنقاءُ الخاليان من شوائب الحياة ولخبطاتها.
عندها وقع بصري على شجيرةٍ صغيرةٍ من الحناء خلف غرفتها. قلتُ لها: «جدّتي، أريد شجرة الحناء لأزرعها». أجابت بصوتٍ حنون: «شجرة الحناء ما زالت صغيرة، ولن تعرفي كيف تزرعينها». قلتُ لها: «سأعرف كيف أزرعها، وسأعتني بها إن شاء الله يا جدّتي». ابتسمت وقالت: «انتظري، سأضعها لكِ في علبة».
كنت أراقبها وهي تتعامل مع الشجرة الصغيرة برفقٍ وحنان، وعند نزعها من التراب أدركتُ مدى حبها للأشجار، وحنانها الذي تجسّد في طريقتها في خلع النبتة. وحين وضعتها لي في علبةٍ وملأتها بالتراب، عدتُ إلى البيت وأنا فرِحةٌ بالشجيرة الصغيرة وبالفعل.
زرعتُها وأخذتُ أعتني بها أشهرًا، وحين كبرت قليلًا كنتُ أقول: «سأذهب إلى جدّتي لأخبرها أن شجرة الحناء تكبر، وأنها أصبحت وارفة». وبعد عامٍ خرجتُ أتفقّد الشجرة وأجمع زهورها لأمّي، فإذا بالهاتف يرنّ بخبرٍ جعل قلبي كورقةٍ تذروها الرياح: «جدّتكِ ماتت».
نظرتُ إلى شجرة الحناء، وكأنّي أراها تنظر إليّ. قلتُ لها: «جدّتي، رحلتِ قبل أن أريكِ الشجرة. رحلتِ قبل أن أتجاذب معك حديثًا كنتُ أريد أن أخبركِ به عن أمّي وتعبها، وعن قلبي المتعب؛ فقد زاد—يا جدّتي—تعبه الآن. رحلتِ يا من أهديتِني هديةً من الجنّة: شجرةَ الحناء، التي تشبه قلبكِ؛ أخضرَ وارفَ الظلال. رحلتِ، ورحلت معكِ أحاديثُ وادي الحنّاني».








